الأحد، 10 أبريل 2016

الوعي الفعلي ،والوعي الممكن في شعر قاسم بن محمد آل ثاني (المؤسس )

الوعي الفعلي والوعي الممكن 
في شعر قاسم بن محمد آل ثاني 
(المؤسس) 


            لا يكاد يذكر العمل الأدبي إلا ويأتي الشعر في صفه الأول ، وكيف لا ، وهو المسيطر الأكبر على تراث الأدبي لحياة الكثير من الأمم . يبث شعورا ، او يسجل تاريخا ، او يقيم ثورة، او يبث وعيا . 
     اهتمت الكثير من الدراسات والمناهج بدراسة الشعر وتعددت مشاربها وغايتها التي تسعى إليها ، فتارة تذهب به مناهج سياقية مثل المنهج التاريخي إلى دراسته لمعرفة البيئة وأحداثها ووقائعها ، وحينا يخطفه المنهج الاجتماعي ليحدد الانعكاس الذي يشكل المنتج الادبي في ضوء البنى الانتاجية والتحية للمجتمع ، ويكون للمنهج النفسي نصيب من الشعر فتراه يعزي انتاجه إلى عناصر في مكبوتات اللاوعي او الوعي الجمعي . وقد يكون المنهج نصيا فيدرس النص الادبي داخل بنيته هو لا من عوامل خارجية مؤثرة فيهن وأحيانا تقام الصلة بين المناهج النصية والمناهج السياقية في التناول.

         ومن هنا كان الشعر ، بالرغم من تزاحم الاجناس الأدبية الحديثة مدار دراسات وأبحاث المهتمين ، ليس فقط في جوانبه الفنية ، بل سعت إلى اكتشاف الإيديولجيات والفكر التي تضمه الاعمال الأدبية الشعرية .
    من هذا المنطلق ،ومن اهتمامي بالادب الشعبي ، حاولت قراءة الشعر ليس قراءة المتلقي المتذوق فحسب ، بل وجهت تفكيري لمحاولة قراءة جديدة واعية للشعر . فكان اختياري لعنوان البحث ( الوعي الفعلي والوعي الممكن في شعر قاسم بن محمد الثاني ) . وتأتي أهمية اختياري لهذا الشاعر دون غيره ، لكثرة الآراء التي عبرت عنه فكره السياسي ودوره في تأسيس قطر ، باعتباره مؤسس قطر .
        فكانت الدوافع المحركة للبحث هي : دراسة الأدب الشعبي من منظور نقدي وأدبي جديد، النظر في الادب الشعبي لا على أنه أدب جانبي ، بل أدب ساير الشعب المعني به وحقق له إنجازات ما . ومحاولة الدخول في الدراسة العلمية البحثية لهذا العالم الادبي الشعبي.

        كثرت الأصوات والمقالات التي تناولت قاسم بن محمد رجل دولة وسياسي قطر الأول ، فظهرت دراسات تهتم بجانب التاريخ أكثر من الدراسات الأدبية مثل التطور السياسي في قطر لعبد العزيز المنصور ، وقطر الحديثة ، لعبدالعزيز عبدالغني ، وغيرهم ، كانت هناك مجموعة مقالات وندوات تناولت القائد قاسم بن محمد رجل سياسة ، وكذلك أقيمت ندوات منها التاريخية  ومنها واحدة أدبية عام 2009 تناولت الثقافة والشعر ، ضمن احتفالات قطر باليوم الوطني ، ولكن للأسف بالرغم من معرفتي بوجود ورقتي عمل حول المؤسس وشعر ه قدمها الدكتوران علي الكبيسي ، وصباح الكواري ، والأولى تناولت قاسم بن محمد عند الشعراء ، والثانية تناولت قراءة جديدة في شعر قاسم بن محمد ، إلا انه لسوء الحظ لم أتمكن من الحصول عليها ، رغم محاولاتي . وكذلك كانت هناك مقالات صحفية وعبر المجلات القطرية التي كانت تخصص عددها لشهر ديسمبر للحديث عن قطر والمؤسس ، فقد كان محتوى تلك المقالات القصيرة تمجيدا ليوم الثامن عشر من ديسمبر ، وإحياء لذكرى المؤسس فتأتي المقالات ذكر لبعض أقواله أو الأحداث التي خاضها أو شيئا من شعره أو المدح في مبادئه التي سار عليها وانتهجها في تكوين تشكل الدولة .

         ومن خلال الوقوف على الدراسات السابقة ، ووجود معلومات سابقة عند الطالبة وقراءتها لشعره متذوقة ، ظهرت إشكالية البحث ، والتي تمثلت في التالي :

               ما مدى تحقق مقولة الشعر وثيقة تاريخية اجتماعية في شعر قاسم بن محمد ؟
               ماهي صور الوعي الفعلي في العمل الادبي عند الشاعر ؟
               كيف تجلى الوعي الممكن عند قاسم بن محمد ؟
                ما المرجعيات التي شكلت الوعي الممكن ؟
     وقد حددت الطالبة مادتها بديوان الشاعر ن وديوان طبع على نفقة الشيخ علي بن عبد الله الثاني ، ويتضمن ثلاثة عشرة قصيدة ، إحدى عشر قصيدة منها تتحدث عن الأحداث السياسية والتاريخية لقطر ، وقصيدتين في رثاء زوجته .
    وقد استخدمت آليات  من المنهج البنيوي التكويني لدى لوسيان غولدمان  ومنها ( الوعي الفعلي ، الوعي الممكن ، الفهم والتفسير ، ورؤية العالم ) .
       وقد قُسمت الدراسة  إلى مبحث واحد تضمن أربع عناصر كالتالي :

1-      العنصر الأول : الشعر بوصفه وثيقة تاريخية اجتماعية ، وتحدثت فيه عن دور الشعر في تسجيل أحداث التي عاشها الشاعر وصورها ، وكيف أن هذه الرؤيا للشعر كوثيقة قديمة ، وأن الشاعر استخدم نصوصه الإبداعية للتعبير عن واقعه لا عن ذاته فهو يؤمن بهذا الدور ويصرح به .
2-      العنصر الثاني : الوعي الفعلي في شعر قاسم بن محمد الثاني : وتطرقت فيه إلى وعي الاديب بحال وواقع مجتمعه وما يمر به من صراعات وقوى ن من خلال استعراض للسلطة القوة التي تمثلت في البحرين وتركيا والإنجليز ، والقوى الكادحة والتي تمثلت في الشعب ، وعلاقته بجيران قطر من الدول .
3-      العنصر الثالث : تجلي الوعي الممكن : حيث يرتبط الوعي الممكن بالوعي الفعلي ارتباطا وثيقا ، فقد تمثل في رفض السلطات والسيطرة والقيام بالرد المادي عليها ن والدخول في حماية تركية ، والتغافل أحيانا عن الشعب الطبقة الكادحة ليحقق أصوات وتجمع حوله لتشكيل رؤية جمعية للعالم .
4-      العنصر الرابع : مرجعيات الوعي الممكن : وضحت فييه باستخدام مفهومي الفهم والشرح  من المنهج البنيوي ، مرجعيات قاسم بن محمد في تكشبل الوعي الممكن لديه والتي أرجعها البحث إلى مكونين أساسيين هما : الفكر الثيولوجي ، والتنشئة الاجتماعية .
    ثم أنهيت بخاتمة ضمنتها اهم الملاحظات حول البحث .
     ومن أهم المراجع التي استندت الطالبة عليها هي :
الديوان – التطور السياسي في قطر لعبدالعزيز المنصور ، البنيوية ومابعدها لسامر الاسدي .

وقد واجهت الطالبة صعوبات أهمها قلة الدراسات الأكاديمية  المنشورة حول شعر المؤسس .

            وفي الختام ، أرجو أن تكون الدراسة قد كشفت جانبا صحيحا من فكر الاديب قاسم بن محمد ، وترجو إسداء النصح بالتعديل لمن يرى خطأ فيها . والله ولي التوفيق

                                                                                                                         



  


عناصر البحث:
1-    الشعر بوصفه وثيقة تاريخية اجتماعية.

2 - الوعي الفعلي والوعي الممكن في شعر جاسم بن محمد آل ثاني:

   2-1 تمثل الوعي الفعلي.
  2-2 تجليات الوعي الممكن .
   2-3 مرجعيات الوعي الممكن.




1-      الشعر بوصفه وثيقة اجتماعية تاريخية.
    تكثر الدراسات والمناهج التي تنادي بعلاقة الأدب بمجتمعه، فالأدب تعبير عن المجتمع، حيث نجد القول المشهور (الشعر ديوان العرب)، فهو السجل الحافل الذي يسطّر عادات، وأيام، ومعتقدات تلك البيئة العربية وحياة أهلها. والناظر في التراث العربي يجد إرثا عظيما عبّر عن واقعية أدبه، في مراحله من الجاهلية إلى العصر الحديث.
     والأمر نفسه نجده عند الغرب، حيث نادى أصحاب النظرية الاجتماعية بربط الأديب بمجتمعه، فظهرت مفاهيم مثل الانعكاس، والاجتماعية الجدلية، والبنيوية التكوينية، التي تناولت الأدب من منظور اجتماعي سياقي.
    إذن، فالأدب وثيقة اجتماعية وتاريخية، عند أصحاب تلك الرؤى، وهذا البحث يدرس الأمر نفسه في تناوله شعر جاسم بن محمد آل ثاني، فهل كان شعره وثيقة اجتماعية وتاريخية لتلك المرحلة؟، وما الأحداث الواقعية التي سجلها الأديب شعرا؟.
       المطلع على شعر جاسم بن محمد – رحمه الله-يقرأ صفحة من صفحات التاريخ، حيث جاء شعره خطابا ادبيا، معبرا عن الحالة الاجتماعية والسياسية التي تعيشها إمارة قطر آنذاك. فنراه يعبر عن مكيدة آل خليفة في حبسه إياه، وهو ابن شيخ من شيوخ قطر، فنراه يسجل تلك الحادثة بقوله[1] :
وجتنا فرامين معاهم مختومة         بمواثيق وآيات من الله نزايل
فركبنا على ماشورة زجها الهوا      وجينا ممن الشيخ المسمى نسايل
وقلطنا وسلمنا على كاسب الثنا        وجلسنا ودار ابنا من الفكر كيف قايل
فقال اقلطوا للمجلس اللي خلافكم         وصكت علينا محكمات الحبايل
   والشاعر يجمع عصبته من أهله ،وقبائل قطر الموالين له؛ للردّ على  آل خليفة ومن يوالونهم من قبائل النعيم شمال قطر ،فيكون ذلك شغله الشاغل وفكره الأول الذي يقضي مضجعه[2]:
أرى الجفن يجف النوم ما يالف الكرى   إذا هم في بعض الهمم والمطالب
قم يا نديبي وارتحل عيدهيَّة                عمانيةٍ من ساس هجنٍ نجايب
فأنا لي على كل البوادي قدايم          إذا نابهم اسنة الغلا والخرايب
ابذل لهم نفسي ومالي وعصبتي        وحصن لهم في موجبات النوايب
فاركب ومر ابها المخاضيب ساعة          ولاتكثر المهروج من غير صايب
فان رحبوا بك فاطرح الرحل عندهم          وطرش إلى الباقين منك النبايب
فإن كان هابوا فاخلط السير بالسرى         إلى البشر واجعلهم مناخ الركايب
ثم قلهم لهم ربعي تراخا احزامهم              إلا شغاميم القروم العطايب
       فكما نرى فهو ملبٍ لحاجات مجتمعه. فالشاعر "لا يعيش معزولا عن المجتمع، أو لا ينبغي أن يعيش في برج عاجٍ، بل أن ثمة علاقة تفاعل بالتأثير والتأثر بينه وبين مجتمعه"[3]، فهو يصوّر تلك البيئة التي تعيش حالة الغزو، والدفاع بين أماراتها، في ردّ الاعتداءات ، أو مساعدة من أجاره ، والتي قد تدوم سنينا، ما بين كرّ وفر ،وفوز تارة ، وخسارة تارة أخرى. فيصور حروبه مع أبوظبي وشيخها زايد الأول ،وحمايته لحميد بن مانع المنصوري:
صبرنا لها ما زعزع الدهر عزمنا     ونلنا بها العليا على كل طايل
فيا ما حمينا كل من هو لجا بنا          إذا صكته جيلانها والجدايل
فزعنا لهم بكبارنا مع اصغارنا          ونقدع شبا من دونهم كل صايل
فيا ما تمنوا في الرخا ردة الجزا          بمعاهيد واديانٍ تفض الحمايل
فساعة بدا الماجوب فيهم فأدبروا           واقفوا جميعٍ كاسبين الفشايل [4]
 كما يصوّر الشاعر الحالة الاقتصادية التي تعيشها قطر في تلك الفترة ، وصعوبة قبول تأدية الخاوة(الخراج)للدولة التركية عبر حاميتها في قطر ، فيظهر جاسم بن محمد "فاعلا جماعيا يعبر عن وعي طبقة اجتماعية ينتمي إليها ، وهي تتصارع مع طبقة اجتماعية لها تصورها الخاص بالعالم" [5]، فترفض طبقة الشاعر تسليم الخاوة للحامية التركية وتدخل في عراك مع الأتراك ، إذا يصور ذلك بقوله[6]:
يبون ملك ارقابنا والعيالي      وتمشاة حكم على يبونه يمشون
فرجب بهم الّي من الدين خالي      عبّادة الدينار بالدين يشرون

وقوله[7]:  
ما ساقة الخاوة لعينا الحلالي    ولا ارتضي بالذل في مسكن الهون
ونفوسنا ترخص لنا كل غالي     ونرخص بها ساعة الناس يغلون
   من خلال ما سبق عرضه من أمثلة ، يتبين للباحثة أن شعر جاسم ب محمد ـ رحمه الله ـ، لا يعبّر عن ذاتية ، بل يعبّر عن همّ مجتمعه اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا ، وأنه أي الشاعر قد تنبّه لقيمة الشعر ودوره في تسجيل أحداث تلك المرحلة، فلم يقل الشعر بحثا عن جماليته بل لتسجيل الأحداث وتعبير عن فكر وهموم المجتمع فهو يقول :
قد قلت أنا هذا ولا نيب شاعر     ولانيب حبّابٍ لبدع المثايل
لكن هيّضني خدايع شيوخنا         وخونات ماكانت لهم في الأوايل
فالشعر هنا والأدب عموما يتحدث ويُفهِم "فهو كما تقول مدام دوستال لم يعد فنا ،بل سلاحا للتحرك والفهم".[8]فكيف يتمثل ذلك الفهم؟ ، وكيف يحدث التحرك؟

2/الوعي الفعلي والوعي الممكن:
         تتميز النظرة الاجتماعية في العمل الأدبي بالعلائق التي تربط بين البنى الذهنية (الفوقية ) ، والبنى المادية (التحتية) ، ومن خلال هذا الارتباط يتشكل ما يسميه لوسيان غولدمان بالوعي الفعلي ، حيث يأتي الوعي الفعلي "وهو وعي الموجود تجريبيا على مستوى السلب "[9] والذي يعني كذلك كما يشير جميل حمداوي ،نقلاعن صالح سليمان عبدالعظيم في كتابه سوسيولوجيا الرواية السياسيةص45،" هو وعي آني لحظي وفعلي ، من الممكن أن يعي مشاكله التي يعيشها ،لكنه لا يملك لنفسه حلولا في مواجهتها" ومن مشاكل الواقع: العلاقات الاجتماعية، وطبقاتها وسلطتها وقوتها وضعفها ، والأدب في عدّه منتجا اجتماعيا يتفاعل فليس انعكاسا ذا اتجاه واحد من المجتمع للأدب ،بل هو يؤثر في تلك البنى التحتية ،من خلال الوعي الممكن الذي يرسم تطلعات وآمالاً مستقبلية ، فهو ينادي بالتغيير ويسعى له ،فيكون " في العمل الأدبي المنسجم رؤية للعالم ، وتصورا فلسفيا ، وإيديولوجيا للطبقة الاجتماعية "[10] ، ومن خلال النظر والبحث في شعر جاسم بن محمد ـرحمه الله ـ نلحظ وعيا فعليا للواقع فـ"هناك شيء ما داخل النّص ـ سواء أكان ظاهرا أو باطنا ينبغي عدم كبته"[11]، من خلال جمع العلاقات المبعثرة في النصوص الشعرية التي تساهم في فهم العلاقات في مستوى البنى التحتية سواء في تمثل الوعي الفعلي ،أو مستوى الوعي الممكن ،ومرجعياته.




2-1/ تمثل الوعي الفعلي في شعر جاسم بن محمد آل ثاني
    يقدم شعر جاسم بن محمد تصويرا للحياة السياسية في الفترة التي عاشها ، والحوادث التي أثرت في تشكل قطر ككيان سياسي ،فأغلب "قصائد الديوان تصوّر هذه الحوادث والمشاكل التي كانت تواجه البلاد "[12]، والتي يمكن أن نقسمها كالتالي :
أ/ طبقة القوة : يصوّر الشاعر جاسم بن محمد صورا متنوعة للسلطات التي كانت تسيطر على الأوضاع العامّة ، والتي كانت لها اليد العليا في تسيير أحوال ، ومقدرات قطر أرضا وشعبا ، فقد كانت تلك القوى تتحكم في شؤون الأمور ،وتشرف على مجريات الحياة فيها في فترة من التاريخ .ومن تلك السلطات
أ-أ سلطة البحرين : تمثلت صورة البحرين في سلطة حكامها في شعر جاسم بن محمد في صورة الطبقة العليا على طبقة أهل قطر ، فهو يعترف بإمرة شيوخ البحرين في أوضاع قطر ، وإن تضايق منها في بعض تصرفاتها ، ويشير إلى ذلك يقوله [13]:
أرى من صروف الدهر ما كدر الصفا   وجفن سهر مهوب بالنوم ذايل
على شيخنا اللي من زمان ٍ نعد له         وبالله هو وافي جميع الخصائل
جانا وهو شيخ ٍ علينا امفوض             ونجّض بنا حكمه صبي الصمايل
فالشاعر يقول بتصرف البحرين في أحوال قطر، فهم شيوخ بحكم ما منحتهم إياه بريطانيا من تفويض.
       كما تمثّل الشاعر جاسم بن محمد ـرحمه الله- قوة شيوخ البحرين في تأليب بعض القبائل وخروجها عن طاعة حكم شيوخ قطر ؛لما كانت تكنّه تلك القبائل من ولاءات سابقة للبحرين في حكمهم في الزبارة ، وفي هذا يقول [14]:  
ثم قل لهم ربعي تراخا احزامهم      إلا شغاميم القروم العطايب
فلا خير فيمن يتبع الهون والردى       ورزقه سؤال بين معطي وطالب
أ-ب سلطة الاتراك : دخلت قوة الحامية التركية بدعوة من الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني ،ابن حاكم قطر آنذاك الشيخ محمد بن ثاني في عام 1871م، فقد كان الشيخ محمد بن ثاني معارضا للحامية التركية ،ولذلك لم يرفع العلم التركي على بيته ، كما فعل ابنه الشيخ جاسم [15]،بالرغم من أن الشيخ جاسم كان يؤمن بأهمية الهوية الإسلامية ويرى ذلك في الدولة العثمانية ، إلا أن تصرفات الحامية كانت تنبئ بغير ذلك ، وكانت تتدخل في شؤون قطر الداخلية ،بل وتفرض عليها ضرائب ،كما كانت تفعل في حامياتها الأخرى ،وفي هذا يقول الشاعر.[16]:
وجونا خبيثين العمل والفعالي     اللي عن أحكام الشريعة يحيدون
نكّاحة الذكران مِرد العيالي        وهم للفواحش والخمر يستحلون
يبون ملك  رقابنا والعيالي        وتمشاة حكم اللي يبونه يمشون
فالشاعر يصف أفراد الحامية التركية بأنهم خبيثو العمل ، ويحيدون عن أحكام الشريعة ، فهم يستحلون الفواحش والخمر، ويريدون ملك رقاب أهل قطر ، والتحكم فيهم . وعندما يرفض أهل قطر فرض الضرائب ،لا تجد الحامية سبيلا إلا قتال أهل قطر، وفي وصف ذلك يقول الشاعر[17]
      فساعة غشى هجرٍ باهلها تزلزلت     وكلٍ حفرله وسط سربة غار
      و فرّت جميع البدو منّه مهابة          ومحاسيبهم بالدارتين اسطار
       وحدّر علينا طاغيٍ يقشع الصفى     من البغي باحكامه علينا جار
فالجيش التركي جيش كبير يزلزل من يمر به ،وتفر منه البدو ، وهو يبدد الصفو ، ويجير بأحكامه بغيا وتسلطا.
أ- ج سلطة الإنجليز:  كان الإنجليز مسيطرين على مياه الخليج ، عاقدين معاهدات مع شيوخها ، ولم تكن قطر قد دخلت بعد في اتفاقية ،فكان ما يخص قطر ،ينظر فيه عن طريق البحرين ، حتى توترت العلاقة بين قطر والبحرين بهجوم على الوكرة ،وهجوم على الزبارة، والذي كان في الثاني بتأييد من الإنجليز انفسهم ، إلى أن انفصلت قطر عن البحرين ،وعقد الشيخ محمد بن ثاني معاهدة 1968مع بيلي المعتمد البريطاني في الخليج العربي ، وبعد تلك المعاهدة أصبحت قطر تخضع لحكم آل ثاني[18] . فالشاعر كان لديه وعي فعلي بسلطة الإنجليز في تحريك دفة التامور في الخليج ، ولاسيما فيما يخص قطر من علاقات بين البحرين ، فيذكر الشاعر بان الإنجليز سلطة مفوضة للبحرين ورد ذكره في البحث عند الحديث عن سلطة البحرين - ، وهي دعامة لها في هجومها على الزبارة ،وفي هذا يقول : [19]
وصبرت على حرب النصارى وحزبهم    خشاش رعاع مارجين معاه
فهو يصف أنه صبر على حرب النصارى ويعني الإنجليز ومن كان في حزبهم أي البحرين ممن يقفون في صف الإنجليز.

     وإذ تنظر الباحثة في هذا الوعي بالسلطة، أيا كانت تمثلاتها السابقة ، تجد أنه ليس وعيا سلبيا ،كما أطلق عليه جميل حمداوي ، فهو وإن كان يصف الحادثة يضفي عليها رأيا حيالها إذ يذكر الوصف الوعي بالسلطات منكرا أو رافضا .فهل هذا الوعي الفعلي الإيجابي يمهد لوعي ممكن ؟ أم أن الوعي الفعلي ليس بالضرورة أن يكون سلبيا كما وصفه جميل حمداوي ؟.
ب/ طبقة الكادحين:  كانت الحياة الاجتماعية لأهل قطر تعتمد على النظام القبلي ، فتكون الولاءات للقبيلة أو حلفائها ، وكانت حياتهم الاقتصادية  في تلك الفترة غير يسيرة، فهي إما تعتمد على الغوص على اللؤلؤ ،أو الرعي ، أو القرصنة من قبل بعض الأفراد في بحر الخليج القريب من الساحل ؛للاستيلاء على مكاسب. لم يغفل الشاعر تمثل حال أهل قطر في شعره ، بل إن واقعية الخطاب حتمت حضورهم ، فظهرت صور أهل قطر في عدة صور لتمثل الطبقة الكادحة في المجتمع.
1- ولاء أهل قطر لشيوخها : تمثل ذلك في وقوف بعض القبائل في الرد على الآخرين من أهل قطر الموالين البحرين ، وفي هذا يقول الشاعر[20] :
فاركب ومر ابها المخاضيب ساعة        ولا تكثر المهروج من غير صايب
فان رحبوا بك فاطرح الرحل عندهم          وطرش إلى الباقين منك النبايب
فإن كان هابوا فاخلط السير بالسرى         إلى البشر واجعلهم مناخ الركايب
فالشاعر يصف إرساله لمندوبه وطلبه من القبائل نصرته في الرد على الموالين للبحرين من أهل قطر. كما يصف في موقع آخر وقوف فتيان القبائل معه في الرد على هجوم الأتراك على قصر الوجبة ،فهو القائل :[21]
يسايلنا بالخسر والخسر عندنا         مراكيض صدق فوق قب امهار
                                          عليهن فتيان وكلٍ مجرب                 سمو للمعالي النايفات اصغار
فالشاعر يصف كيف أن الأتراك كانوا يتمنون خسارة أهل قطر ، ولكنه يرى أن الخسر يلحق بالأتراك فقد جهز لهم العدة من الخيول وفتيان شجعان مجربين.
2- ولاء بعض أهل قطر للبحرين : كما ذكر البحث سابقا فحياة المجتمع تقوم على القبيلة وما تقوم عليه من تحالفات ، وقد كان لبعض القبائل ولاءات مع البحرين آنذاك وقد تمثل ذلك الشاعر في شعره في ردهم عما يسعون إليه ،وفرض السيطرة على مناطق قطر جميعها . وفي ذلك يقول :
ملكنا بها ديرانهم مع ديارنا     بيوم دعا قصر الربيجة خرايب
ولينا وعينا وجدنا بعتقهم        وجدنا لهم بأموالهم والربايب
فهو يصف كيف تمكن من تلك المناطق، وكيف عفي عن أهلها.وفيما بعد كان الولاء لحكم آل ثاني من الجميع.
3- قرصنة بعض الأفراد القطريين : نظرا لقلة المال، والحاجة إلى توفيره بأي سبب كان ، كانت بعض الأفراد يمتهن القرصنة على السفن وسلبها مالها ، وهذا ما كان يسبب قلقا لأصحاب تلك السفن التجار، ومعهم الإنجليز طبعا المسيطرة على مياه الخليج آنذاك. وهذا السلب قد ينعكس سلبا على آخرين فيؤخذ من ماله بقدر ما أخذ القراصنة البدو وربما وزيادة ، وفي هذا يقول الشاعر: [22]
فلفاني من البحرين علم فسرني             يقولون لي خان الصليح أوعاب
غدا يقرع المال الذي في جواره                   بخدايعٍ تدعى الديار اذهاب
مال تودّى منه جملة حقوقه                     ونفوسنا بخروجهن اطياب
فالشاعر هنا يصف علمه بأخذ حكومة البحرين من ماله الخاص الذي كان في البحرين، جزاء لما أخذه البدو من عمليات قرصنة على سفن البحرين.
ومن خلال عرض لأهل قطر، نرى أنها تعبر عن الطبقة الكادحة التي تسعى للبقاء، وتحافظ مع ذلك على عاداتها في نصرة من لجأ طالبا العون. وتحاول تغيير الواقع بأي وسيلة.
      هذا الوعي لهذه الطبقة الكادحة المغلوب على أمرها يمثل وعيا فعليا بجانب الوعي بطبقة السلطة القوية.
   ج/جيران قطر:
       تمثل التواجد حول قطر بجانب البحرين ،في حكومة أبوظبي، وكذلك ال سعود في المملكة العربية السعودية ، والكويت . كانت الحياة في تلك الفترة بسيطة تعتمد على مكونات العيش القليل وما يجنيه الناس من الغوص . واتسمت العلاقات بالجذب والترك فما أن تطيب يوما حتى يتعكر صفوها لسبب ما ، لذلك تجد جماعة من الناس أو مشيخة من المشايخ أنها قد دخلت خلافا أو ربما حربا . وهذا ما حدث بين قطر وحكومة أبوظبي ،فمثلت تلك الخلاف والصراعات "الوعي الناجم عن الماضي ومختلف حيثياته وظروفه وأحداثه ، فكل مجموعة اجتماعية تسعى إلى فهم الواقع انطلاقا من ظروفها المعايشة والاقتصادية والفكرية والدينية والتربوية".[23]وقد جاء شعر قاسم بن محمد الثاني معبرا عن تلك الظروف ولاسيما في تصويره للحروب التي دخل فيها مع أبوظبي وشيخها زايد الأول والتي استمرت فترة من الزمن ما بين هجوم ودفاع أو حماية لمجير به ، وفيه يسجل الشاعر ذلك الحدث بقوله:                               
                                       و جِرْدٍ غَزِيناها لِهذي ومِثْلَها                         عَلِيها صِنيعَ الْمارْتين السَّلايل             
                                  وِطينا بها الأَرْض الّذي هابْ وَطْيها                    سلاطين في ماضي الْعصور الأَوايل
                                    سَبينا محارمها وقِتَلْنا رِجالها                         وجَعَلْنا محاضِرْ مَساكِنها سِعِيرٍ شَعايل      
                                    خَمْسة عَشر يُوم وأَنا مِسْتِطيلها                   وادِي أَهَلْها بِين ناقِع وسايل
                                     لين اِجْتِمع مِن كل قومٍ شرايد ْ                      إِلى مَزْبَنٍ فيه الحُصون الْعدايل
                                  فْساعةْ وِصِلْنا نَحْسِبْ الرَّاي عِنْدنا                فغدا رَأْينا عند العِيال الجهايل  
           وعلى الرغم من صعوبة الظروف في الحرب وعسرة دروب تلك البلاد التي دخلها أهل قطر في حربهم ، وطول مدة الكرب . يتصل قاسم بن محمد بمحمد بن عبدالله الرشيد ليساعده . وفي القصيدة نفسها يقول :
                                        فَدَعْ ذا وَ يا غادِي على أَكْوار ضُمّرْ            فيهِن مِن رِبدْ النّعايم مِثايل                                                                 
                                   مَنْصاك سُلطان الْجِزيرة محمَد                      فَرِز الوغى مِقْعِد صغَى كل عايل
                                                                                                 
                       وهنا أجد أن الشاعر قاسم بن محمد قد سجلا تاريخا لتلك الفترة وعبّر عن وعيه لمجريات الحياة آنذاك وكيف واجه ذلك الواقع بما تتطلبه منه وعيه بظروف الحياة . وكذلك لم يغفل وعي الطرف الآخر حكومة أبوظبي والذي تمثل في الدفاع أو الهجوم حينا آخر . فالكل ينطلق بوعيه من مرجعياته الاقتصادية والاجتماعية والفكرية .

            ومن هذا الوعي الفعلي نجد أن الشاعر قاسم بن محمد كان واعيا حقا بما يجري حوله من مجريات سياسية واجتماعية ، فجاء تصويره الشعري لا تاريخا تسجيلا فحسب ،بل كان وعيا فكريا تجاه ما يدور حوله من سلطات وقوى ، وحال شعب بلاد تتجاذبه أطراف البقاء بأي صورة إما بولاءات أو بقرصنة أو الدخول في طاعةأمير المشيخة ليحقق لها الاستقرار ، و هذا الوعي لم يكن سلبيا بل كان الشاعر يذكر رأيه ويطرح وجهة نظره حيال ما يراه ويعيشه من واقع  . فإذا كان الوعي بالواقع يكون تصويرا لما تكون المجريات عليه دون حراك أو الاستسلام لها ، فإن هذا لم يتحقق فقط عند قاسم بن محمد الذي كان يلفظ الخطأ ويمقت الظلم الذي يقاومه من وجهة نظره . فهل يعني ذلك أن مقومات الوعي الممكن قد توفرت لدى قاسم بن محمد ؟ وهل استطاع أن يصور الشاعر تطلعاته لوعي أفضل من وعيه الفعلي ؟ إذا كان الشاعر قاسم بن محمد يرفض الواقع الفعلي للسلطات التي تتحكم في مقدرات البلاد والعباد ، فما هو التصور المجتمعي الذي يحلم ويتطلع ليكون عليه المجتمع والبلاد؟




2/ تجلي الوعي الممكن :  
          تسعى الجماعات البشرية إلى الاستقرار، والتعاون فيما بينهما ، لتحقق فرص العيش الكريم ،والمحافظة على بقائها وتواجدها المادي في مساحات الأرض التي تسكنها ، ليحقق لها هذا التواجد وذلك الاستقرار فرصة لتواجد أخر هو التواجد الفكري والثقافي الذي به  تحقق  هويتها وذاتها الفاعلة . لكن الوضع الذي اتضح من خلال الوعي الفعلي في شعر قاسم بن محمد الثاني ، لا يقدم فرصة حقيقية لتصور " كيان جماعي من البشر بينهم شبكة من التفاعلات والعلاقات الدائمة والمستقرة نسبيا " [24]ويبدو أن قاسم بن محمد شعر بذلك الأمر فعبّر عن الوعي الفعلي الكائن كما رأينا واستحضره بشكل كبير في عمله الأدبي ، ولكنه لم يرضَ أن يقف موقف المتفرج وقد تأتت له على أرض الواقع أدوات تمكّنه من أن يبرز " وعيا إيديولوجيا مستقبليا بامتياز ، ويتجاوز جدلا الوعي القائم "[25]من خلال انطلاق سهمه السياسي كقائد يتحمل المسؤولية ،وترجع إليه الأمور في التفاوض أو حل الخلاف .
         فأول علامات التغيير الإحساس والوعي بالمشكلة أو الرغبة في تحقيق الأهداف ، ويتجلَى الوعي الممكن في أدب الشاعر القائد قاسم بن محمد الثاني في تعامله مع ما يحيط به من إشكاليات سلطوية أو اجتماعية شعبية، لذلك فإن الارتباط بين الوعي الفعلي والوعي الممكن قائم و وثيق .
     يتخذ الوعي الممكن صورا مختلفة في شعر قاسم بن محمد الثاني والتي تمثلت في مواجهة الصراع والسيطرة برد مشابه ، أو الدخول في حلف قوي تحت الحامية التركية ، أو التعامل مع الأمور بنوع من التغافل أحيانا والصفح أحيانا أخرى .
              
أ/  المواجهة  ورد الصراع والرفض  :
             ذكر البحث سابقا في الوعي الفعلي أن هناك الكثير من السلطات التي تفرض سيطرتها على قطر ، وتحاول ألا تخرجها عما كانت عليه ، ولكن الأديب القائد لم يكن ليرضى بالقبول السلبي سبيلا للعيش ، بل على العكس ما إن تحاول سلطة ما أن تفرض أو تقتص من شعب قطر إلا وتلقى ردا مضادا لما تسعى إليه . وقد تمثل رفض واقع إحدى السلطة المسيطرة في شعر قاسم بن محمد ، ومن أمثلة ذلك ردعلى هجوم الأتراك :
                                          وَحشنَا نصاغيهم على غير شَفَهم            يمين ومن بعد اليمين إيسار
                                            و خَرْع الهنادي في عوالي مِتونهم               وضَمّن برمي المارتين قَرار
                                          وَ ضَرْبٍ بِحَدَ المشْرفيات راكد                   غَدت منه روس الباغيين اِشْطار

  الدخول في  حماية :
         استلزم الحال التي كانت عليه قطر من علو كلمة البحرين والإنجليز  في أرضها  إيجاد بديل ملائم للوعي الفكري والإيديولجي ، فكان استحضار الحامية التركية ليس مجرد استحضار مادي ، بل هو استحضار لإيديولوجيا فكرية يؤمن بها الشاعر القائد ، فمجي ء الحامية التركية يمثل لجوءا ،ورفضا من الشاعر القائد لحال السلطة البحرينية والبريطانية ن وعبر عن ذلك بقوله [26]:
                      نَسْألك وَحدك ولا لغيرك نِسالي                   ونخْلص لك الدَعوى وفَرْضٍ ومسْنون
                     وعَن طاعِتك ما غَيْرتنا الليالي                        وفي منهج التوحيد ما نِتْبع الهون
                     فَبِذا   رقينا شامخات الْجبالي                           عن ملك دولات وعن ملك قانون
                    ومَع ذا نوالي كل من لك يوالي                             في بُغض جَميع إلي لغيرك يوالون
التغافل والصفح :
                لم يغب التفكير في الشعب الذي يسكن قطر ، وهو وإن كانت تجري منه بعض الأخطاء التي تؤثر في جلب صراع وتعقيد إلا أن السعي إلى تحقيق تكتل سياسي يحتاج إلى التغاضي والصفح عن بعض التجاوزات والمشاكل التي قد يسببها الشعب الذي لايزال يعيش على حالة البقاء والعيش لسد الحاجة والعمل من اجل الاستمرار. ولأن العصبة والتكتل والكيان يحتاج لجماعة تؤيده وتحقق مآربه ، كان الأمر يحتم التجاهل الإيجابي الذي يتوقع أن يعكس تأثيره لدى تلك الجماعة ، فالعفو والتغافل ليسا  دائما ضعفا بل أحيانا يطلبهما  الوعي الاستبصار بالأمور . وقد تمثل ذلك في قول الشاعر قاسم بن محمد[27]:
                               ملكنا بها  دِيرانهم مع ديارنا            بيومٍ دعا قصر الربيحة خرايب
                              وَ لِينا وَ عفينا وَ جِدنا بِعتقهم              وُ جُدنا بأموالهم والرَبايب

     من خلال عرض الوعي الممكن يتمثل لنا فكر إيديولوجي لدى الشاعر القائد قاسم بن محمد ،فهو يرفض القوة المتسلطة  ولا يهاب أن يقاتلها أو يخالفها ،فإذا كان البعض يفضل الركون في حماية السلطة لمجرد أنها قوية ، فإن هذا لا يتوافق مع فكر قاسم بن محمد ، فهو يلجأ لمن يجد لديه التوجه نفسه لذلك يطلب الحامية التركية لأنها تؤمن بالفكر الإيديولوجي عينه ،لا لمجرد أنها قوة فحسب ، فلو كان الأمر كذلك لما خرج عليها وقاتلها بعدما شاهد انحرافا في فكرها الإيديولوجي بعد زمن . كما كان التغافل الإيجابي عن غلطات أبناء المجتمع وعيا بأهمية المحافظة عليهم كأصوات لتنادي بما يذهب إليه ولتكوَن وعيا جمعيا بما يحيط من أمور بهم .
               يبدو القول بوجود إيديولوجيا تمظهرت في الوعي الممكن الذي تمثل في شعر قاسم بن محمد ، يحتمّ سؤالا جديدا ألا وهو ماهي مرجعيات ذلك الوعي الممكن ؟ ما هي البنى التحتية التي كانت سبيلا لتشكل الفكر وأدب قاسم بن محمد ،؟ ، وكيف انعكست في عمله الأدبي ؟
3/ مرجعيات الوعي الممكن :
              تشكل المرجعيات البنى التحتية للعمل الأدبي الذي ينطلق منه المبدع ليُشكّل مُنْتجه الأدبي ،بعد فهم وتصوير الواقع المعيش ، ليأتي تعبير الفرد ليس تعبيرا عن ذاته هو فحسب ، بل عن تعبير الجماعة التي ينتمي إليها ، " فإنه لا أحد يستطيع أن يصنع لنفسه رؤية للعالم ، وأن هذه الرؤية بالضرورة ، من طرف مجموعة اجتماعية قبل أن يصورها الكاتب " [28]فما هو مرجعيات الرؤية الجمعية للعالم ؟
      لاكتشاف تلك المرجعيات ، فإن البحث سيتناول آليتين من آليات المنهج البنيوي التكويني ، ألا وهي الفهم والشرح .
           في المنهج البنيوي التكويني " فهم العمل الأدبي فيما تراه البنيوية التكوينية عملية عقلية إلى أقصى حد ، أي أنها تقوم على أدق وصف ممكن لبينة دالة دون إضافة إلى النص الأدبي "[29]فيتوجب على البحث التحقق من  أمارات تلك المرجعيات التي شكلت الوعي الممكن عند الشاعر قاسم بن محمد ، وهذا الفهم لا يكون جزئيا للعمل ، بل هو فهم شمولي "و"يلتزم بعدم إضافة عناصر خارجية للنص أو دلالات غير مستخرجة من النص ذاته [30]
      ولكن مادام النص منتجا اجتماعيا فلابد أن الأمر لا يتعلق بالفهم من داخل النص فقط ، وإلا لكان المنهج البنيوي شكليا فقط منغلقا على ذاته ، فكانت هناك حتمية للشرح ( التفسير ) ، وعليه " يمكننا القول أن الشرح يمت إلى بنية واسعة ، تشتغل في الدرس الاجتماعي على مستوى البنية الخارجية الأشمل " [31]

      الناظرفي  الشعر المنتج لقاسم بن محمد يتلمس بكل وضوح المرجعية التي شكلت له الوعي الممكن ، فهو كثيرا ما يفكر تفكيرا ثيولوجيا في طرح الأفكار وتصويره للواقع ، وهذا التمثل الثيولوجي  مصبوغ بشكل كبير في انتاجه الأدبي المتمثل في ديوانه الوحيد . ومن أمثلة ذلك ما يلي :
                              فويل لقاضي الأرْض مِن قاضي السما          إلى عاد مِيزانه عن الحق مايل[32] .
وقوله : 
                           لا تقطعون الوصل والرحم بينكم                       فالله عن قطع الرحام ايسال [33]
وقوله :      فيا بايع دينه بدنيا دنيّه           عليك في  يوم الحساب اعقاب[34]
تُخادع بامان الله وتغدر بأمنك    وتَلبس من العار الخبيث ثياب
وقوله في تحديد العلاقة بين العرب والقطريين والإنجليز رؤية ثيولوجية :
فعلينا جنود الشرك والكفر ألبوا       بغربانها واتباعها واطواب [35]
فدانت لهم شيخان لطراف واذعنت      يسومونهم بالذل سوم اعذاب
وقوله في موالاة الأتراك رغم قوة الحماية الإنجليزية :
              ومع ذا نوالي كل من لك يوالي        فبغض جميع إلى لغيرك يوالون [36]
يكشف النص فهما لمرجعية ثيولوجية عند فهم الواقع والوعي بمجرياته ، والمرجعية الثيولوجية تعد المحرك الأول الذي شكلت منتج الشاعر الادبي وفكره ، ويفسر تواجد هذه المرجعية اتصال قاسم بن محمد بشيوخ الدين  من شبه الجزيرة العربية ، وحضور البعض منهم لإمارة قطر ، الذي طور فكر الشاعر قاسم بن محمد وأسس له فكره الإيديولجي ولاسيما أنه في صباه قد نشأ على العلم الديني وحفظ القرآن فكان ذلك لبنة لفكر إيديولجي ذا مرجعية ثيولوجية.
     ويؤكد ذلك النص الادبي للشاعر في قوله
                        عساك تَجْعلنا من أنصار دينك        وتعلي بنا للمسلمين منار [37]
ويبدو أن هناك مرجعية أخرى في النصوص الأدبية للشاعر أثرت في توجه لوعي ممكن ، وهو حب القيادة وتمرسها ، والتي يمكن ملاحظتها من خلال نصوص شمولية في المنتج الأدبي للشاعر قاسم بن محمد .
والقيادة عنده ،تمثلت في قيادة عسكرية ، وقيادة سياسية ، أما القيادة العسكرية فقد تمثلت في شعره :
نطحنا السبايا يوم كرّت ورودها        والشيخ في مثناه جمعه يخايل [38]
نطحنا السبايا  بالسبايا ودبرت              والدم لعينى فوق رمحي وشايل
و قوله في موضوع أخر :
وحاربت فيهم لقربين وحقهم          ومع ذا وعجّزت القلم بالكتايب [39]
وهذا الذي يملك فكر القائد السياسي ن والذي يتمثل في شعره ، بين تهدئة للأمور حينا ، وبين إعلان القوة ضد القوة ، وبين التأكيد على قوة التمكن السياسي لديه . والذي يمكن أن يُلحظ في شعره فيما يرد من أبيات :
                                 فجنحت انا للسلم لا من مذلّة       ولا نيب وهن في الحروب اهياب [40]
                                   وعاملت أنا بالصدق والنصح والنقا       وترى الله علّام بكل اكتاب
وقوله :                    
                                      خرجت من بين السلاطين كانني          حرٍ تعلّا فوق روس اهضاب [41]
فالشاعر في واقعه الخارجي في المجتمع لم يكن فردا عاديا ، بل كان ابن أمير مشيخة ، تسند إليه الكثير من الأمور وهو القاضي والخطيب في صلاة الجمعة ، قائد المعركة ، والمفاوض الأول مع القوى التي تتجاذب السيطرة على جغرافية الأرض .
       ومن خلال عمليتي الفهم والشرح هذه تبينت لنا مجموعة من العوامل التي شكلت مرجعيات الوعي الممكن والتي يمكن ان نجملها في النقاط التالية :
1-      الفكر الأيديولجي ذو المنبع ثيولوجي ، والذي تمثل في الدين الإسلامي الذي أعادت نشره الحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية في ذلك العهد .
2-      التنشئة الاجتماعية في بيت حكم ، صنع منه قائدا ذا فكرٍ أيديولوجي ، يجعله لا يرضخ ويخنع لسلطات خارجية ، بل تجعله يفكر في جمع أبناء الشعب ، لإحداث رؤية للعالم في منطقة جغرافية تتحقق فيها الحرية المناسبة .













الخاتمة :
     
       عرض البحث تواجد العمل الأدبي والذي تمثل في هذا البحث في شعر قاسم بن محمد ال ثاني ،
كوثيقة تاريخية اجتماعية في العنصر الأول ، حيث صوّر الشاعر في عمله الادبي الحياة التي كانت في تلك الفترة في تركيزه على على مجريات الحياة الكبرى من أحداث تاريخية واجتماعية لمّت بالمجتمع الذي يعيش فيه .
    ثم تناول البحث الوعي الذي تعامل فيه الأديب مع واقعه الخارجي الذي يعيش ويعد فردا من أفراده وتمثل ذلك الوعي بوعي فعلي بالأحداث والقوى والصراعات المحيطة ، وتمثل بملامح الوعي الممكن التي جاءت وثيقة الصلة بالوعي الفعلي من خلال رفض ، أو رد أو أحيانا تغافل .
   ثم تناول البحث العنصر الثالث وهو مرجعيات الوعي الممكن فلكل إبداع وإنتاج مرجعيات يعتمد عليها ن ولما كان المنتج أدبيا فكريا كان لابد أن تؤثر فيه مرجعيات قد كانت بنى تحتية له والتي تمثلت وتواجدت آثارها في النصوص الشعرية وماكانت لتخرج عن فكر ثيولوجي ، وتنشئة اجتماعية .
     وخلال دراسة العمل الأدبي لنصوص قاسم بن محمد ال ثاني ، نخلص إلى بعض الملاحظات .
1-      وعي قاسم بن محمد في دور العمل الادبي كوعاء لتسجيل الأحداث والتاريخ .
2-      العمل الأدبي في شعر قاسم بن محمد جاء يعبر عن وعي جمعي ، لا وعي فردي .
3-      يشكل العمل الادبي لقاسم بن محمد رؤية للعالم ، تمثلت في الوعي الفعلي والوعي الممكن .
4-      مرجعية الوعي الممكن أصيلة من ذات المجتمع ، ولم تكن أفكار خارجية .

ومن خلال دراسة العمل الأدبي لقاسم بن محمد يمكن القول أنه حقق تفردا في عصره ،فهو قائد فعلي يملك وعيا لتكوين مجتمع وبناء دولة .









فهرس المصادر والمراجع
أولا : المصادر
-          الديوان قاسم بن محمد، د.م ، مطابع قطر الوطنية ، الدوحة ، 1969

ثانيا : المراجع

الاسدي، سامر : البنيوية ومابعدها ، دار المنهجية ،ط1،سنة 2015
المنصور عبدالعزيز ، التطور السياسي لقطر 1868-1916م، ط الكويت سنة1975م،ص43
 إبراهيم وسعد الدين وآخرون: المجتمع والدولة في الوطن العربي ،،مركز دراسات الوحدة العربية ،لبنان،ط2، 1996
شحيد،جمال : في البنيوية التركيبية – دراسة في منهج لوسيان غولدمان ،
حمداوي ،جميل : سيسيولوجيا الادب والنقد.
كافود محمد عبدالرحيم ، الأدب القطري الحديث ، دار قطري بن الفجاءة،ط2،سنة1982
مجموعة مؤلفين ، مدخل إلى مناهج النقد الادبي ،ترجمة رضوان ظاظا ،سلسلة عالم المعرفة ع221ص166



ثالثا : الدوريات العلمية :
عبدالسلام رشيد، وفاء الجميلي،المعيار الاجتماعي وقضية الالتزام في النقد العربي القديم إلى نهاية القرن الخامس ، ع8،سنة2013



[1] ديوان الشاعر
[2] المصدر نفسه ص25
[3] عبدالسلام رشيد، وفاء الجميلي،المعيار الاجتماعي وقضية الالتزام في النقد العربي القديم إلى نهاية القرن الخامس ، ع8،سنة2013
[4] الديوان ، ص37-38
[5] جميل حمداوي ،مدخل إلى البنيوية، المغرب
[6] الديوان ص44
[7] الديوان
[8] مجموعة مؤلفين ، مدخل إلى مناهج النقد الادبي ،ترجمة رضوان ظاظا ،سلسلة عالم المعرفة ع221ص166
[9] جميل حمداوي ، سوسيولوجيا الأدب والنقد ، ص57
[10] المصدر نفسه ص57
[11] مجموعة مؤلفين ، مدخل إلى مناهج النقد الادبي ،ترجمة رضوان ظاظا ،سلسلة عالم المعرفة ع221ص189

[12] كافود محمد عبدالرحيم ، الأدب القظري الحديث ، دار قطري بن الفجاءة،ط2،سنة1982
[13] الديوان ص1-2
[14] المصدر نفسه ص24
[15] المنصور عبدالعزيز ، التطور السياسي لقطر 1868-1916م، ط الكويت سنة1975م،ص140
[16] الديوان ص 44
[17] المصدر نفسه ص 48
[18] المنصور عبدالعزيز ، التطور السياسي لقطر 1868-1916م، ط الكويت سنة1975م،ص43
[19] الديوان ص54
[20] الديوان ص25
[21] الديوان ص 48
[22] الديوان
[23] شحيد،جمال : في البنيوية التركيبية – دراسة في منهج لوسيان غولدمان ،ص40
[24] إبراهيم وسعد الدين وآخرون: المجتمع والدولة في الوطن العربي ،ص37،مركز دراسات الوحدة العربية ،لبنان،ط2، 1996
[25] حمداوي ،جميل : سيسيولوجيا الادب والنقد ص 56-57
[26] الديوان
[27] المصدر نفسه ،ص26
[28] النيوية التكوينية والنقد الأدبي ص57
[29] في البنيوية التركيبية ، جميل شحيد،ص45
[30]الاسدي، سامر : البنيوية ومابعدها ،ص211، دار المنهجية ،ط1،سنة 2015

[31] المصدر نفسه ،ص211
[32] الديوان ص6
[33] الديوان ص 10
[34] الديوان ص15
[35] المصدر نفسه ص 16
[36] المصدر نفسه ص43
[37] المصدر نفسة ص52
[38] المصدر نفسه ص6
[39] المصدر نفسه ص24
[40] الديوان ، ص 14
[41] المصدر نفسه ص 17

ليست هناك تعليقات: